الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
السلطان أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل العباس ابن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد ابن الخليفة المعتصم بالله أبي بكر ابن الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسين - وهؤلاء غير خلفاء - ابن الخليفة الراشد بالله منصور ابن الخليفة المسترشد بالله الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدي بالله عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الخليفة المقتفي بالله إبراهيم ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير الموفق طلحة ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدي بالله محمد ابن الخليفة أبي جعفر عبد الله المنصور ابن الإمام محمد ابن الإمام علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب العباسي الهاشمي المصري الخليفة ثم سلطان الديار المصرية. ولي الخلافة بعد موت أبيه في يوم الإثنين مستهل شعبان سنة ثمان وثمانمائة وذلك بعد وفاة أبيه المتوكل بأربعة أيام. واستمر في الخلافة إلى أن تجرد صحبة الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية في أواخر سنة أربع عشرة وثمانمائة. ووقع المصاف بين الملك الناصر المذكور وبين الأمراء: الأمير شيخ المحمودي والأمير نوروز الحافظي بمن معهم وانكسر الناصر وانحاز إلى دمشق. واستولى الأمراء على الخليفة هذا واستفحل أمرهم وقدموا إلى دمشق وحصروا الناصر بها بعد أمور ذكرناها مفصلةً في أواخر ترجمة الملك الناصر المذكور. ثم اتفق الأمراء على إقامة الخليفة هذا في السلطنة عوضًا عن الملك الناصر فرج المذكور لتجتمع الكلمة في رجل واحد ويجموا بذلك سبيلًا لقتال الملك الناصر وانفلال الناس عنه. وأرسلوا إليه فتح الله كاتب السر فكلمه في ذلك وهو على ظاهر دمشق والملك الناصر داخلها فأبى الخليفة المذكور أن يقبل ذلك وصمم على عدم القبول. فألح عليه فتح الله في ذلك وتلطف به فلم يزدد إلا تمنعًا كل ذلك خوفًا من الملك الناصر. فلما رأى فتح الله شدة تمنعه وعدم موافقته رجع إلى الأمراء وأعلمهم بذلك وقال لهم: ألا يمكن قبوله أبدًا مما رأيت من تمنعه فاعملوا عليه حيلة حتى يقبل. فدبروا عليه حيلة من أنهم أرسلوا خلف أخيه لأمه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي وأعطوه ورقة تتضمن القدح في الملك الناصر وفي تعداد أفعاله ومساوئه وندبوا ناصر الدين المذكور بعد أن أو عدوه بإمرة طبلخاناه ودوادارية السلطان حتى ركب فرسًا من غير علم الخليفة ونودي أمامه: إن الخليفة قد خلع السلطان الملك الناصر من السلطنة ولا يحل لأحد متابعته ولا القيام بنصرته وقرئت الورقة على الناس. وبلغ الخليفة المستعين بالله ذلك فقامت قيامته وعظم عليه ذلك إلى الغاية وتحقق عند ذلك أن الملك الناصر إذا ظفر به لا يبقيه. ودخل عليه فتح الله بعد ذلك ثانيًا وكلمه في السلطنة فقبل على شروط عديدة شرطها على الأمراء فقبلوا جميع الشروط. وفرح الأمراء بذلك وبايعوه بأجمعهم وقبلوا يده وحلفوا له على الطاعة والوفاء بالأيمان المغلظة التي لا يمكن التورية فيها. ثم نصبوا له كرسيًا خارج باب الدار تجاه جامع كريم الدين وجلس فوقه وعليه خلعة سوداء خليفتية أخذوها من الجامع المذكور من ثياب الخطيب ووقفوا بين يديه على مراتبهم الجميع ما عدا الأمير نوروز الحافظي فإنه لم يقدر على الحضور لاشتغاله بحفظ الجهة التي هو فيها ثم قبلت الأمراء الأرض بين يديه على العادة وكان ذلك في آخر الساعة الخامسة من نهار السبت الخامس والعشرين من محرم سنة خمس عشرة وثمانمائة والطالع برج الأسد. وفي الحال عند تمام أمره تقدم الأمير بكتمر جلق خلع عليه بنيابة دمشق عوضًا عن دمرداش المحمدي فإنه كان الملك الناصر قد ولاه نيابة دمشق - بعد كسرته - عوضًا عن الوالد - رحمه الله - بحكم وفاته. وخلع على سيدي الكبير قرقماس - ابن أخي دمرداش المذكور - باستقراره في نيابة حلب عوضًا عن الأمير شيخ المحمودي. وخلع على سودون الجلب باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي. ثم ركب أمير المؤمنين وهو السلطان وبين يديه جميع الأمراء ونادى مناد: إن الملك الناصر فرج بن برقوق خلع من السلطنة بالخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله ولا يحل لأحد بعد ذلك مساعدته ولا القيام بنصرته ومن حضر إلى الخليفة من جماعته فهو آمن على نفسه وماله. وقد أمهلكم أمير المؤمنين في المجيء إليه إلى يوم الخميس. وسار أمير المؤمنين بعساكره إلى قريب المصلي ثم عاد ونزل بمكانه. ثم أمر فنودي بذلك أيضًا في الناحية الشرقية من دمشق وعند سماع هذه المناداة انحلت أهل ثم كتب أمير المؤمنين إلى أمراء مصر باجتماع الكلمة على طاعته وأنه خلع الملك الناصر من الملك وتسلطن عوضه وأنه أبطل المكوس والمظالم من سائر أعماله وبعث بذلك على يد الأمير كزل العجمي. ثم مات الأمير سكب الدوادار الثاني من سهم أصابه وكان ممن خامر على الملك الناصر وأتى الأمراء في واقعة اللجون. ثم خلع أمير المؤمنين على القاضي شهاب الدين أحمد الباعوني واستقر به قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني بحكم تخلفه بمدينة دمشق عند الملك الناصر فرج. هذا كله والقتال عمال في كل يوم والجراحات فاشية في عسكر الأمراء من عظم الرمي عليهم من أسوار المدينة من الناصرية. ومات الأمير يشبك بن عبد الله العثماني الظاهري أيضًا خارج دمشق من سهم أصابه في يوم الجمعة أول صفر وصلى عليه الأمير شيخ المحمودي. وأما الملك الناصر فهو مع هذا كله يفرق الأموال ويستدعي المقاتلة ويستحثهم على نصرته. وخلع الناصر على فخر الدين ماجد بن المزوق ناظر الإسطبل باستقراره في كتابة سر مصر عوضًا عن فتح الله. ثم ولى الوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيري نظر الخاص عوضًا عن بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي. وبينما هو في ذلك وصلت إلى الملك الناصر أمراء التركمان: قرايلك وغيره من نواب القلاع بسبب النجدة فنودي بعسكر أمير المؤمنين باستعداد العوام لقتال المذكورين " فإنهم مقدمة تيمورلنك وجاليشه. واجتمع الأمراء والمماليك وحلفوا بأجمعهم يمينًا مغلظًا لأمير المؤمنين بأنهم يلزمون طاعته ويأتمرون بأمره وأنهم رضوا بأنه الحاكم عليهم وأنه يستبد بالأمور من غير مراجعة أحد وأنهم لا يسلطنون أحدًا غيره طول حياته. ثم قبل الجميع الأرض بين يديه وصار الجميع طوعًا لأمير المؤمنين المستعين بالله فمشى بذلك حالهم على قتال الملك الناصر. ولولا الخليفة ما انتظم لهم أمر لعظم ميل التركمان والعامة للملك الناصر. ثم توجه فتح الله للأمير نوروز بدار الطعم - حيث هو نازل - فحلفه على ذلك وقبل الأرض لأمير المؤمنين وأظهر من الفرح والسرور ما لا مزيد عليه باستبداد الخليفة بالأمر وقال: حينئذ استقام لنا الأمر. وسأل نوروز فتح الله المذكور أن يقبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين نيابةً عنه وسأله في أن ينفرد بالتدبير ولا يشاركه فيه الأمير شيخ ولا هو ولا غيره يريد بذلك كف هذا والقتال عمال في كل يوم وقراءة المحضر الذي أثبتوه على الملك الناصر على الشاميين وفيه قوادح في الدين توجب إراقة دمه وشهد في المحضر نحو خمسمائة نفس وثبت ذلك على قاضي القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفي وحكم بإراقة دمه. ثم بلغ شيخًا أن الملك الناصر عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى يصير فضاءً ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك بمن يأتيه من التركمان وبمن عنده. فبادر شيخ وركب بعد صلاة الجمعة بأمير المؤمنين ومعه العساكر وسار من طريق القبيبات ونزل بأرض الثابتية. وقاتل الملك الناصر في ذلك اليوم أشد قتال إلى أن مضى من الليل جانب. وكثر من الشاميين الرمي بالنفط عليهم فاحترق سوق خان السلطان وما حوله. وحملت السلطانية على الشيخية حملةً عظيمة هزموهم فيها وتفرقوا فرقًا وثبت شيخ في جماعة قليلة بعد ما كان انهزم هو أيضًا إلى قريب الشويكة. ثم تكاثر الشيخية وانضم عليهم جماعة من الأمراء فحمل شيخ بنفسه بهم حملة واحدة أخذ فيها القنوات ففر من كان هناك من التركمان والرماة وغيرهم. وكان الأتابك دمرداش المحمدي نازلًا عند باب الميدان تجاه القلعة فلما بلغه ذلك ركب وتوجه إلى الملك الناصر وهو جالس تحت القبة فوق باب النصر وسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك السلطانية ليتوجه بهم إلى قتال شيخ فإنه قد وصل إلى طرف القنوات وسهل أخذه على السلطان فنادى الملك الناصر لمن هناك من المماليك وغيرهم بالتوجه مع دمرداش فلم يجبه منهم أحد. ثم كرر السلطان عليهم الأمر غير مرة حتى أجابه بعضهم جوابًا فيه جفاء وخشونة ألفاظ معناه أنهم ملوا من طول القتال وضجروا من شدة الحصار. وبينما هم في ذلك إذ اختبط العسكر السلطاني وكثر الصراخ فيهم بأن الأمير نوروزًا قد كبسهم فسارعوا بأجمعهم وعبروا من باب النصر إلى داخل مدينة دمشق وتفرقوا في خرائبها بحيث إنه لم يبق بين يدي السلطان أحد فولى دمرداش عائدًا إلى موضعه وقد ملك شيخ وأصحابه الميدان والإسطبل. فبعث دمرداش إلى السلطان مع بعض ثقاته بأن الأمر قد فات وأن أمر العدو قوي وأمر السلطان أخذ في إدبار والرأي أن يلحق السلطان بحلب ما دام في الأمر نفس. فلما سمع الملك الناصر ذلك قام من مجلسه وترك الشمعة تقد حتى لا يقع الطمع فيه بأنه ولى ويوهم الناس أنه ثابت مقيم على القتال. ثم دخل إلى حرمه وجهز ماله وأطال في تعبئة ماله وقماشه فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل والأتابك دمرداش واقف ينتظره. فلما رأى دمرداش أن الملك الناصر لا يوافقه على الخروج إلى حلب خرج هو بخواصه ونجا بنفسه وسار إلى حلب وترك السلطان. ثم خامر الأمير سنقر الرومي على الملك الناصر وأتى أمير المؤمنين وبطل طبول السلطان والرماة. ثم خرج الملك الناصر من حرمه بماله وأمر غلمانه فحملت الأموال على البغال ليسير بهم إلى حلب فعارضه الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وغيره ورغبوه في الإقامة بدمشق وقالوا له: الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءًا أبدًا. ولا زالوا به حتى طلع الفجر فعند ذلك ركب الملك الناصر بهم ودار على سور المدينة فلم يجد أحدًا ممن كان أعده للرمي فعاد ووقف على فرسه ساعة ثم طلع إلى القلعة والتجأ بها بمن معه - وقد أشحنها - وترك مدينة دمشق. وبلغ أمير المؤمنين والأمراء ذلك فركب شيخ بمن معه إلى باب النصر وركب نوروز بمن معه إلى نحو باب توما ونصب شيخ السلالم حتى طلع بعض أصحابه ونزل إلى مدينة دمشق وفتح باب النصر وأحرق باب الجابية. ودخل شيخ من باب النصر وأخذ مدينة دمشق ونزل بدار السعادة وذلك في يوم السبت تاسع صفر بعد ما قاتل الملك الناصر نحو العشرين يومًا قتل فيها من الطائفتين خلائق لا تحصى ووقع النهب في أموال السلطان وعساكره وامتدت أيدي وركب أمير المؤمنين ونزل بدار في طرف ظواهر دمشق وتحول شيخ إلى الإسطبل وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة كونه قد ولي نيابة دمشق قبل تاريخه. هذا والسلطانية ترمي عليهم من أعلى القلعة بالسهام والنفوط يومهم كله وباتوا ليلة الأحد على ذلك. فلما كان يوم الأحد عاشر صفر المذكور بعث الملك الناصر بالأمير أسندمر أمير آخور في الصلح وتردد بينهم غير مرة حتى انعقد الصلح بينهم. وحلف الأمراء جميعهم وكتبت نسخة اليمين ووضعوا خطوطهم في النسخة المذكورة وكتب أمير المؤمنين أيضًا خطه فيها. وصعد بها أسندمر المذكور إلى القلعة ومعه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي - أخو الخليفة المستعين بالله لأمه - ودخلا على الملك الناصر وكلماه في ذلك وطال الكلام بينهم فلم يعجب الملك الناصر ذلك. وترددت الرسل بينهم غير مرة بغير طائل. وأمر الملك الناصر أصحابه بالرمي عليهم فعاد الرمي من أعلى القلعة بالمدافع والسهام. وركب الأمراء واحتاطوا بالقلعة فأرسل الملك الناصر يسأل بالكف عنه فضايقوا القلعة خشية أن يفر السلطان منها إلى جهة حلب. ومشت الرسل أيضًا بينهم ثانيًا. وأضر الملك الناصر التضييق والغلبة إلى أن أذعن إلى الصلح وحلفوا له ألا يوصلوا إليه مكروهًا ويؤمنوه على نفسه وأن يستمر الخليفة سلطانًا. وقيل غير ذلك وهو أنه ينزل إليهم ويتشاور الأمراء فيمن يكون سلطانًا فإن طلبه المماليك فهو سلطان على حاله وإن لم يطلبوه فيكون الخليفة ويكون هو مخلوعًا يسكن بعض الثغور محتفظًا به. ومحصول الحكاية أنه نزل إليهم في ليلة الإثنين حادي عشر صفر ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه وهو ماش من باب القلعة إلى الإسطبل والناس تنظره. وكان الأمير شيخ نازلًا بالإسطبل المذكور فعندما عاينه شيخ قام إليه وتلقاه وقبل الأرض بين يديه وأجلسه بصدر المجلس وجلس بالبعد عنه وسكن روعه ثم تركه بعد ساعة وانصرف عنه فأقام الملك الناصر بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني صفر. فجمع الأمراء والفقهاء والعلماء المصريون والشاميون بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين - وقد تحول إليها وسكنها - وتكلموا في أمر الملك الناصر والمحضر المكتب في حقه فأفتوا بإراقة دمه شرعًا. فأخذ في ليلة الأربعاء من الإسطبل وطلع به إلى قلعة دمشق وحبسوه بها في موضع وحده وقد ضيق عليه وأفرد من خدمه فأقام على ذلك إلى ليلة السبت سادس عشر صفر وقتل حسبما ذكرناه في أواخر ترجمته مفصلًا بعد اختلاف كبير وقع في أمره بين الأمراء: فكان رأي شيخ إبقاءه محبوسًا بثغر الإسكندرية وإرساله إليها مع الأمير طوغان الحسني الدوادار. وكان رأي نوروز قتله وقام نوروز وبكتمر جلق في قتله قيامًا بذلًا فيه جهدهما. وكان الأمير يشبك بن أزدمر أيضًا ممن امتنع من قتله وشنع ذلك على نوروز وأشار عليه ببقائه واحتج بالأيمان التي حلفت له. واختلف القوم في ذلك فقوي أمر نوروز وبكتمر بالخليفة المستعين بالله فإنه كان أيضًا اجتهد هو وفتح الله كاتب السر في قتله وحملا القضاة والفقهاء على الكتابة بإراقة دمه بعد أن توقفوا عن ذلك حتى تجرد قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي لذلك وكافح من خالفه من الفقهاء بعدم قتله بقوة الخليفة ونوروز وبكتمر وفتح الله ثم أشهد على نفسه أنه حكم بقتله شرعًا فأمضي قوله وقتل الناصر. وكان قصد شيخ إبقاعه يخوف به نوروزًا إن حصل مخالفة وأيضًا وقف على يمينه وخاف سوء عاقبة الأيمان والعهود وأيضًا لما سبق لوالده عليه من الحقوق السالفة وقال: هو - يعني الملك الناصر - قد ظفر بنا وأبقانا غير مرة ونحن مماليكه فكيف نحن نظفر به مرة واحدةً نقتله فيها ويشاع ذلك عند ملوك الأقطار فيقبح ذلك علينا إلى الغاية! قلت: ولذلك ملكه الله على المسلمين وحكمة فيمن خالفه في ذلك حتى أفناهم على السيف في أسرع وقت وأقل مدة " وما ربك بظلام للعبيد " - انتهى. وبعد أن قتل الملك الناصر مشت الأحوال وأمن الناس ونودي فيهم بالأمان. واتفق الحال على أن الأمير شيخًا ونوروزًا يسيران إلى مصر صحبة أمير المؤمنين المستعين بالله ويكونان في خدمته وأن يكون الأمير شيخ أميرًا كبيرًا أتابك العساكر بالديار المصرية ويكون نوزوز أتابك رأس نوبة الأمراء ويكون إقطاعهم بالسوية وأن يسكن شيخ باب السلسلة ويسكن نوروز بيت قوصون تجاه باب السلسلة بالرميلة. وكتب نوروز إلى القاهرة بتجديد عمارة البيت المذكور وأن يضرب عليه رنك نوروز. وصار نوروز يركب من داره إلى تحت قلعة دمشق فيركب شيخ أيضًا من الإسطبل حيث هو نازل ويخرج إليه ويسيران تحت قلعة دمشق بموكبهما ومعهما سائر الأمراء ثم يدخلان إلى دار السعادة إلى خدمة أمير المؤمنين فيجلس شيخ عن يمينه ويجلس نوروز عن يساره ويقف طوغان الحسني الدوادار على عادته ويقعد الأمراء بمنازلهم يمينًا وشمالًا على عادة الموكب السلطاني ويقرأ ناظر الجيش ما يتعلق بالإقطاعات ثم يقرأ كاتب السر القصص ويمد السماط ثم ينفض الموكب كل ذلك وشيخ ونوروز قلوبهما متنافرة بعضها من بعض والناس يترقبون وقوع فتنة بينهما إلى أن خدع شيخ نوروزًا بأن قال له: " أنا قصدي أن أكون بدمشق ويضاف إلي من العريش إلى الفرات وأنت تتوجه مع الخليفة أتابكًا بالديار المصرية ومعك الأمير بكتمر جلق وغيره من الأمراء. ولم يكن لقوله حقيقة غير أنه قصد بذلك حيلة على نوروز فيقول نوروز: أنت تتوجه إلى مصر وأنا أكون نائب الشام وكان ذلك على ما سنذكره. فاستشار نوروز أصحابه في ذلك فقالوا له بأجمعهم: الرأي والمصلحة توجهك إلى الديار المصرية ولو كنت من جملة مقدمي الألوف بها لا سيما تكون أتابك العساكر ومالك زمام مصر فقال لهم: إن أقام شيخ بالبلاد الشامية - مع سعة تحكمه في البلاد - يصير له شوكة عظيمة ويتعبني فيما بعد ولو كان في مصر خير ما تركها هو وأراد نيابة الشام والمصلحة توجهه إلى مصر وأكون أنا حاكم البلاد الشامية من العريش إلى الفرات فراجعوه في ذلك فأبى إلا ما أراد. وأصبح لما حضر الخدمة بين يدي الخليفة على العادة في يوم الإثنين خامس عشرين صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة فاتحه الأمير شيخ في ذلك فبادره الأمير نوروز: أنت تتوجه إلى مصر وأنا أكون نائبًا بدمشق. فخلع عليه أمير المؤمنين في الحال باستقراره في نيابة الشام كله وأن يولي بجميع البلاد من شاء من أصحابه. وانفض الموكب وقد نال الأمير شيخ غرضه وانفرد بتدبير المملكة وحده من غير شريك. وكان ظن الأمير نوروز أن شيخًا لا يستقيم له أمر مع بكتمر جلق ويلبغا الناصري نائب الغيبة بمصر وطوغان الحسني الدوادار وسيدي الكبير قرقماس وأن الذي يبقى معه من الأمراء بالبلاد الشامية جميعهم في طاعته مثل يشبك بن أزدمر وطوخ وقمش وغيرهم فجاء حساب الدهر بخلاف ما ظن. ثم فوض أمير المؤمنين إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق وحلب وطرابلس وحماة وصفد وغزة وجعل له أن يعين الأمريات والإقطاعات لمن يريده ويختاره وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك غير أنه يطالع الخليفة بمن يستقر به في شيء من ذلك ليجهز إليه تشريفًا. وعزل بكتمر جلق عن نيابة دمشق بعد أن حكمها نحو الشهرين عن الخليفة ورسم له أن يتوجه أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية على أحسن الإقطاعات. ثم خلع الخليفة على موقع الأمير نوروز ناصر الدين محمد بن محمد البصروي باستقراره كاتب سر دمشق عوضًا عن صدر الدين علي بن الآدمي. ثم خلع الخليفة على قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني بإعادته إلى قضاء الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن الباعوني الذي كان ولاه الملك الناصر فكانت ولاية الباعوني نحو الشهرين ولم يدخل فيها القاهرة. ثم كتب الخليفة إلى من في البلاد الشامية وغيرها من التركمان والعربان والعشير وجعل افتتاح الكتب: من عبد الله وولده الإمام المستعين بالله وخليفة رب العالمين وابن عم سيد المرسلين المفترض طاعته على الخلق أجمعين أعز الله ببقائه الدين ثم كتب الخليفة إلى الديار المصرية بإطلاق الأمراء المسجونين بالإسكندرية وأن الأمير أسنبغا الزردكاش يسلم قلعة الجبل إلى الأمير يلبغا الناصري ففعل أسنبغا الزردكاش ذلك. وقدم الأمراء من سجن الإسكندرية إلى القاهرة وهم: إينال الصصلاني وسودون الأسندمري الأمير آخور الثاني وكمشبغا الفيسي وجانبك الصوفي وتاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم الأستادار. ثم تهيأ أمير المؤمنين وخرج معه الأمير شيخ وجميع العساكر من دمشق في يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول نحو الديار المصرية. ثم خرج بعدهم نوروز في سادس عشره إلى حلب ليمهد أمورها. ثم رسم الأمير نوزوز أن يضرب بدمشق دراهم نصفها فضة ونصفها نحاس فضربت وتعامل وسار أمير المؤمنين بعساكره حتى دخل إلى الديار المصرية في يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الآخر وطلع إلى القلعة بعدما شق القاهرة وخرج من باب زويلة إلى الصليبة إلى القلعة وقد زينت القاهرة أحسن زينة. فنزل الخليفة بالقصر من قلعة الجبل على عادة السلاطين ونزل الأمير شيخ بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني. ولم يخلع الخليفة على أحد على جاري العوائد. وكان الأمير شيخ يظن أن الخليفة يتوجه إلى داره بالقرب من المشهد النفيسي على عادتة أولًا فلما طلع إلى القلعة تحقق الأمير شيخ منه أنه يريد أن يسير على طريق السلاطين ويترك طريق الخلفاء فأخذ شيخ يكيده بأشياء منها أنه صار يبطل المواكب السلطانية ويعمل الموكب عنده ويعتذر عن ذلك بأن القوم عقيب سفر وتعب ليس لهم طاقة على لزوم المواكب الآن إلى أن يجدوا في نفوسهم قوةً ونشاطًا. وصار ترداد جميع أرباب الدولة إلى باب الأمير شيخ فاتضع أمر الخليفة. ثم أمسك الأمير شيخ الأمير أسنبغا الزردكاش واستفتى في قتله - لقتله الأمير قاني باي في غيبة الملك الناصر - فأفتوا بقتله وحكموا به. ثم أمسك الأمير شيخ حطط البكلمشي وصرغتمش القلمطاوي وهما من أمراء العشرات من خواص الملك الناصر. ثم قبض على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وعلى الأمير سودون الأسندمري وعلى كمشبغا الفيسي وكانا قدما من سجن الإسكندرية بمدة أيام - حسبما تقدم ذكره - ونفى كمشبغا الفيسي إلى دمياط. ثم خلع الأمير شيخ على الأمير خليل التبريزي الدشاري باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن قطلوبغا الخليلي بعد موته. ثم في ثامن شهر ربيع الآخر عمل الأمير شيخ الموكب عند الخليفة بالقصر السلطاني على العادة وحضر شيخ هو وسائر الأمراء الموكب. وخلع الخليفة على الأمير شيخ باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية - وكانت شاغرةً منذ قبض على الملك الناصر وفر الأتابك دمرداش المحمدي إلى حلب. ثم فوض الخليفة إلى شيخ جميع الأمور وأنه يولي ويعزل من غير مراجعة وأشهد عليه بذلك بعد أن توقف الخليفة عن ذلك أيامًا حتى أذعن على رغمه. ثم خلع الخليفة على الأمير شاهين الأفرم على عادته أمير سلاح وعلى يلبغا الناصري باستقراره أمير مجلس وعلى الأمير إينال الصصلاني باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن يلبغا الناصري وعلى سودون الأشقر باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن سنقر الرومي وعلى الأمير ألطنبغا العثماني بنيابة غزة عوضًا عن سودون من عبد الرحمن ونزل الجميع في خدمة الأمير شيخ ثم توجهوا إلى دورهم. ثم في تاسعه عرض الأمير شيخ المماليك السلطانية وفرق عليهم الإقطاعات الشاغرة عن الناصرية بحسب ما يختاره وأنعم على جماعة من مماليكه بإمريات ما بين طبلخانات وعشرات. ثم خلع الأمير شيخ على دواداره جقمق الأرغون شاوي واستقر به دوادار الخليفة حتى لا يتمكن الخليفة من شيء يعمله وكان دواداره قبل ذلك أخوه ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي بإمرة طبلخاناه فصار جقمق كالدوادار الثاني له وفي الحقيقة ترسيمًا عليه. فعند ذلك صار للخليفة الاسم في السلطنة لا غير وما عدا ذلك متعلق بالأمير شيخ. وصار الخليفة مستوحشًا بعياله في تلك القصور الواسعة بقلعة الجبل وضاق صدره من عدم ترداد الناس إليه وندم على دخوله في هذا الأمر حيث لا ينفعه الندم وصار لا يمكنه الكلام لعدم من يقوم بنصرته من الأمراء وغيرهم فسكت على مضض. ثم إن الأمير شيخًا خلع على الأمير قاني باي المحمدي وعلى الأمير سودون من عبد الرحمن - المعزول عن نيابة غزة - خلع الرضى من غير وظيفة. ثم خلع على سعد الدين إبراهيم بن البشيري باستقراره وزيرًا على عادته وخلع على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي باستقراره في نظر الجيش على عادته وخلع على تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر باستقراره ناظر الخاص على عادته ثم خلع على التاج بن سيفا الشوبكي القازاني باستقراره والي القاهرة عوضًا عن أرسلان فعد ذلك من أول سيئات الأمير شيخ وعظم ذلك على أعيان الدولة لعدم أهلية التاج المذكور لذلك. ثم في ثامن شهر ربيع الآخر المذكور أخرج الأمير شيخ عدة بلاد من أوقاف الملك الناصر فرج الموقوفة المحبسة منها قرية منبابة بالجيزة تجاه بولاق وكان أوقفها الملك الناصر على التربة الطاهرية وناحية دنديل وكانت أيضًا موقوفة على التربة المذكورة وأخرج عدة رزق كثيرة وهي التي كان الناصر أخرجها وأوقفها في سلطنته. ثم تاسع عشره خلع الأتابك شيخ على القضاة الأربعة وباستمرارهم وخلع على بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسي أستادار الأمير شيخ باستقراره أستادار العالية فنزل ابن محب الدين إلى داره وجميع أرباب الدولة في خدمته. ثم في ثاني عشرينه استقر شهاب الدين أحمد الصفدي موقع الأمير شيخ في نظر البيمارستان المنصوري عوضًا عن كاتب السر فتح الله ومعها نظر الأحباس عوضًا عن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله وخلع على القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي باستقراره موقع الأمير الكبير شيخ عوضًا عن الشهاب الصفدي المقدم ذكره. وأما الأمير نوروز الحافظي فإنه استولى على حلب وهرب منها الأمير دمرداش المحمدي وخلع على يشبك بن أزدمر بنيابتها وخلع على الأمير طوخ بنيابة طرابلس وفرق الإقطاعات والإمريات على أصحابه ومماليكه كيف يختار من غير معاند غير أنه ندم على قعاده بالبلاد الشامية غاية الندم في الباطن لا سيما لما بلغه من أمر شيخ وعظمته بمصر ما بلغه. ثم في يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى قرىء تقليد الأمير الكبير شيخ نظام الملك بأن الخليفة فوض إليه ما وراء سرير الخلافة فعند ذلك جلس الأتابك شيخ بالحراقة من الإسطبل السلطاني وبين يديه القضاة وأرباب الدولة من أعيان الأمراء والمباشرين وغيرهم وقرأ كاتب السر عليه القصص كما يقرؤها بين يدي السلطان. وتلاشى أمر الخليفة حتى صار كعادته أيام خلافته غير أنه في الترسيم محجوب عما يريده. ثم في رابع عشرين جمادى الأولى المذكورة استقر القاضي صدر الدين علي بن الأدمي قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم عنها. ثم أرسل الأتابك شيخ دواداره الأمير جقمق الأرغون شاوي إلى البلاد الشامية ومعه تقاليد النواب الخليفتية باستمرارهم على عادتهم بما قرر الأمير نوروز برضاه. ثم في يوم الخميس ثامن جمادى الآخره مات الأمير بكتمر جلق من مرض تمادى به نحو الشهرين أصله من عقرب لسعته وهو قادم صحبة الخليفة والعساكر إلى الديار المصرية بالرمل فاشتد ألمه منها وأخذته الحمى ثم خرج من سيء إلى سيء إلى أن مات. فنزل الأتابك شيخ راكبًا وجميع الأمراء الخاصكية مشاة حتى صلى عليه بمصلاة المؤمني من تحت القلعة وعاد إلى باب السلسلة من غير أن يشهد دفنه وهو في غاية السرور وقد صفا له الوقت بمرت بكتمر المذكور فإنه كان عليه أشد من نوروز. وصرح شيخ بعد موته بما كان يستكتمه من الوثوب على الأمراء وخلا له الجو. ولما بلغ نوروزًا موته كاد أن يهلك وعلم بما سيكون من أمر شيخ. ثم استقر القاضي ناصر الدين بن البارزي موقع الأتابك شيخ بقراءة القصص على مخدومه الأتابك شيخ فانحط بذلك قدر فتح الدين فتح الله كاتب السر وصار في وظيفته كالمعزول عنها وقل ترداد الناس إليه وكثر تردادهم إلى باب القاضي ناصر الدين بن البارزي لقضاء حوائجهم. ولما عظم أمر الأتابك شيخ بعد موت بكتمر ورأى أن الجو قد خلا له ثم مانع من سلطنته طلب الأمراء وكلمهم في ذلك فأجاب الجميع بالسمع والطاعة - طوعًا وكرهًا - واتفقوا على سلطنته. فلما كان يوم الاثنين مستهل شعبان وعمل الموكب عنده على عادته بالإسطبل السلطاني واجتمع القضاة الأربعة قام فتح الله كاتب السر على قدميه في الملأ وقال لمن حضر: إن الأحوال ضائقة ولم يعهد أهل نواحي مصر اسم خليفة ولا تستقيم الأمور إلا بأن يقوم سلطان على العادة ودعاهم إلى الأتابك شيخ المحمودي. فقال شيخ المذكور: هذا لا يتم إلا برضاء الجماعة فقال من حضر بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير. فمد قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني يده وبايعه فلم يختلف عليه اثنان. وخلع الخليفة المستعين بالله العباس من السلطنة بغير رضاه. وبعد سلطنة الملك المؤيد شيخ وجلوسه على كرسي الملك - حسبما يأتي ذكره بعد أن نذكر بقية ترجمة العباس هذا - بعث إليه القضاة ليسلموا عليه ويشهدوا عليه أنه فوض إلى الأمير شيخ السلطنة على العادة فدخلوا إليه وكلموه في ذلك فتوقف في الإشهاد عليه بتفويض السلطنة توقفًا كبيرًا ثم اشترط في أن يؤذن له في النزول من القلعة إلى داره وأن يحلف له السلطان بأنه يناصحه سرًا وجهرًا ويكون سلمًا لمن سالمه وحربًا لمن حاربه. فعاد القضاة إلى السلطان وردوا الخبر عليه وحسنوا له العبارة في القول فأجاب: يمهل علينا أيامًا في النزول إلى داره ثم يرسم له بالنزول. فأعادوا عليه الجواب بذلك وشهدوا عليه وتوجهوا إلى حال سبيلهم.
|